حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْلُهُ : ( عَنْ سَلَمَة بْنِ الْأَكْوَعِ )
فِي رِوَايَة يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّان " عَنْ يَزِيد بْن أَبِي عُبَيْد حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْأَكْوَع " كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبَر الْوَاحِد .
قَوْله : ( أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاس )
فِي رِوَايَة يَحْيَى " قَالَ لِرَجُلِ مِنْ أَسْلَمَ أَذِّنْ فِي قَوْمك " وَاسْم هَذَا الرَّجُل هِنْدُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ الْأَسْلَمِيُّ لَهُ وَلِأَبِيهِ وَلِعَمِّهِ هِنْد بْن حَارِثَة صُحْبَة , أَخْرَجَ حَدِيثه أَحْمَد وَابْن أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طَرِيق اِبْن إِسْحَاق " حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر عَنْ حَبِيب اِبْن هِنْد بْن أَسْمَاء الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : بَعَثَنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِي مِنْ أَسْلَمَ فَقَالَ : مُرْ قَوْمك أَنْ يَصُومُوا هَذَا الْيَوْم يَوْم عَاشُورَاء , فَمَنْ وَجَدْته مِنْهُمْ قَدْ أَكَلَ فِي أَوَّل يَوْمه فَلْيَصُمْ آخِرَهُ " وَرَوَى أَحْمَد أَيْضًا مِنْ طَرِيق عَبْد الرَّحْمَن بْن حَرْمَلَة عَنْ يَحْيَى بْن هِنْد قَالَ : وَكَانَ هِنْد مِنْ أَصْحَاب الْحُدَيْبِيَة وَأَخُوهُ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُر قَوْمه بِالصِّيَامِ يَوْم عَاشُورَاء , قَالَ " فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْن هِنْد عَنْ أَسْمَاء اِبْن حَارِثَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ فَقَالَ : مُرْ قَوْمك بِصِيَامِ هَذَا الْيَوْم . قَالَ أَرَأَيْت إِنْ وَجَدْتهمْ قَدْ طَعِمُوا ؟ قَالَ : فَلْيُتِمُّوا آخِر يَوْمهمْ " قُلْت : فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون كُلٌّ مِنْ أَسْمَاء وَوَلَده هِنْد أُرْسِلَا بِذَلِكَ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى عَلَى الْجَدّ اِسْمَ الْأَب فَيَكُون الْحَدِيث مِنْ رِوَايَة حَبِيب بْن هِنْد عَنْ جَدّه أَسْمَاء فَتَتَّحِد الرِّوَايَتَانِ , وَاَللَّه أَعْلَم . وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ سَلَمَة هَذَا عَلَى صِحَّة الصِّيَام لِمَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنْ اللَّيْل سَوَاء كَانَ رَمَضَان أَوْ غَيْره لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاء النَّهَار فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّة لَا تُشْتَرَط مِنْ اللَّيْل , وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّف عَلَى أَنَّ صِيَام عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبًا , وَاَلَّذِي يَتَرَجَّح مِنْ أَقْوَال الْعُلَمَاء أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا , وَعَلَى تَقْدِير أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِلَا رَيْب , فَنُسِخَ حُكْمه وَشَرَائِطه , بِدَلِيلِ قَوْله " وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ " وَمَنْ لَا يَشْتَرِط النِّيَّة مِنْ اللَّيْل لَا يُجِيز صِيَام مَنْ أَكَلَ مِنْ النَّهَار , وَصَرَّحَ اِبْن حَبِيب مِنْ الْمَالِكِيَّة بِأَنَّ تَرْكَ التَّبْيِيت لِصَوْمِ عَاشُورَاء مِنْ خَصَائِص عَاشُورَاء , وَعَلَى تَقْدِير أَنَّ حُكْمه بَاقٍ فَالْأَمْر بِالْإِمْسَاكِ لَا يَسْتَلْزِم الْإِجْزَاء فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ لِحُرْمَةِ الْوَقْت كَمَا يُؤْمَر مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَر فِي رَمَضَانَ نَهَارًا وَكَمَا يُؤْمَر مَنْ أَفْطَرَ يَوْم الشَّكّ ثُمَّ رَأَى الْهِلَال , وَكُلّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَمْرَهُمْ بِالْقَضَاءِ , بَلْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق قَتَادَةَ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَلَمَة عَنْ عَمّه أَنَّ أَسْلَمَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صُمْتُمْ يَوْمكُمْ هَذَا ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَأَتِمُّوا بَقِيَّة يَوْمكُمْ وَاقْضُوهُ " وَعَلَى تَقْدِير أَنْ لَا يَثْبُت هَذَا الْحَدِيث فِي الْأَمْر بِالْقَضَاءِ فَلَا يَتَعَيَّن تَرْكُ الْقَضَاء , لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِك الْيَوْمَ بِكَمَالِهِ لَا يَلْزَمهُ الْقَضَاء كَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاء النَّهَار . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور لِاشْتِرَاطِ النِّيَّة فِي الصَّوْم مِنْ اللَّيْل بِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَاب السُّنَن مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ أُخْته حَفْصَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَنْ لَمْ يُبَيِّت الصِّيَام مِنْ اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ " لَفْظ النَّسَائِيِّ , وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ " مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَام قَبْل الْفَجْر فَلَا صِيَام لَهُ " وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعه وَوَقْفه , وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ الْمَوْقُوفَ بَعْد أَنْ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرُقه , وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي " الْعِلَلِ " عَنْ الْبُخَارِيّ تَرْجِيح وَقْفه . وَعَمِلَ بِظَاهِرِ الْإِسْنَاد جَمَاعَة مِنْ الْأَئِمَّة فَصَحَّحُوا الْحَدِيث الْمَذْكُور , مِنْهُمْ اِبْن خُزَيْمَةَ وَابْن حِبَّان وَالْحَاكِم وَابْن حَزْم , وَرَوَى لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ طَرِيقًا آخَر وَقَالَ رِجَالهَا ثِقَات , وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّهُ مِنْ الْحَنَفِيَّة بِصِيَامِ الْقَضَاء وَالنَّذْر , وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ تَفْرِقَة الطَّحَاوِيِّ بَيْن صَوْم الْفَرْض إِذَا كَانَ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَعَاشُورَاء فَتُجْزِئ النِّيَّة فِي النَّهَار , أَوْ لَا فِي يَوْم بِعَيْنِهِ كَرَمَضَان فَلَا يُجْزِئ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْل , وَبَيْن صَوْم التَّطَوُّع فَيُجْزِئ فِي اللَّيْل وَفِي النَّهَار . وَقَدْ تَعَقَّبَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ غَثٌّ لَا أَصْلَ لَهُ . وَقَالَ اِبْن قُدَامَةَ : تُعْتَبَر النِّيَّة فِي رَمَضَان لِكُلِّ يَوْم فِي قَوْل الْجُمْهُور , وَعَنْ أَحْمَد أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَة لِجَمِيعِ الشَّهْر ; وَهُوَ كَقَوْلِ مَالِك وَإِسْحَاق , وَقَالَ زُفَرُ يَصِحّ صَوْم رَمَضَان فِي حَقّ الْمُقِيم الصَّحِيح بِغَيْرِ نِيَّة وَبِهِ قَالَ عَطَاء وَمُجَاهِد , وَاحْتَجَّ زفر بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْر صَوْم رَمَضَان لِتَعَيُّنِهِ فَلَا يَفْتَقِر إِلَى نِيَّة لِأَنَّ الزَّمَنَ مِعْيَار لَهُ فَلَا يُتَصَوَّر فِي يَوْم وَاحِد إِلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ . وَقَالَ أَبُو بَكْر الرَّازِيُّ : يَلْزَم قَائِلَ هَذَا أَنْ يُصَحِّحَ صَوْمَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَان إِذَا لَمْ يَأْكُل وَلَمْ يَشْرَبْ لِوُجُودِ الْإِمْسَاك بِغَيْرِ نِيَّة , قَالَ : فَإِنْ اِلْتَزَمَهُ كَانَ مُسْتَشْنَعًا . وَقَالَ غَيْره : يَلْزَمهُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاة حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتهَا إِلَّا قَدْرهَا فَصَلَّى حِينَئِذٍ تَطَوُّعًا أَنَّهُ يجزئه عَنْ الْفَرْضِ . وَاسْتَدَلَّ اِبْن حَزْمٍ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هِلَال رَمَضَان بِالنَّهَارِ جَازَ لَهُ اِسْتِدْرَاك النِّيَّة حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاء كَانَ فَرْضًا أَوَّلًا , وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يُمْسِكُوا فِي أَثْنَاء النَّهَار . قَالَ : وَحُكْم الْفَرْض لَا يَتَغَيَّر , وَلَا يَخْفَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ , وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنْ اللَّيْل لِاسْتِوَاءِ حُكْم الْجَاهِل وَالنَّاسِي .